فصل: ذكر عزل حمزة وولاية مصعب البصرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة ثمان وستين

  ذكر عزل حمزة وولاية مصعب البصرة

وفي هذه السنة رد عبد الله بن الزبير أخاه مصعبًا إلى العراق‏.‏

وسببه‏:‏ أن الأحنف رأى من حمزة بن عبد الله اختلاطًا وحمقًا فكتب إلى أبيه فعزله ورد مصعبًا واستعمل على الكوفة الحارث بن أبي ربيعة‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب عزله حمزة أنه قصر بالأشراف وبسط يده ففزعوا إلى مالك بن مسمع فضرب خيمته على الجسر ثم أرسل إلى حمزة‏:‏ الحق بأبيك وأخرجه عن البصرة فقال العديل العجلي‏:‏ إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً دعونا أبا سفيان يومًا فعسكرا ذكر حروب الخوارج بفارس والعراق في هذه السنة استعمل مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة وكان المهلب على حربهم أيام مصعب الولى وأيام حمزة بن عبد الله بن الزبير‏.‏

فلما عاد مصعب أراد أن يولي المهلب بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك بن مروان فكتب إليه وهو بفارس في القدوم عليه فقدم واستخلف على عملة ابنه المغيرة ووصاه بالاحتياط وقدم البصرة فعزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليهما عمر بن عبيد الله بن معمر‏.‏

فلما سمع الخوارج به قال قطري بن الفجاءة‏:‏ قد جاءكم شجاع وهو شجاع وبطل جاء يقاتل لدينه وملكه بطبيعة لم أر مثلها لأحد ما حضر حربًا إلا كان أول فارس يقتل قرنه‏.‏

وكان الخوارج قد استعملوا عليهم بعد قتل عبيد الله بن الماحوز الزبير بن الماحوز على ما ذكرناه سنة خمس وستين فجاءت الخوارج إلى إصطخر فقدم إليهم عمر ابنه عبيد الله في خيل فاقتلوا فقتل عبيد الله بن عمر وأراد الزبير بن الماحوز قتال عمر فقال له قطري‏:‏ إن عمر مأثور فلا نقاتله فأبى فقاتله فقتل من فرسان الخوارج تسعون رجلًا وطعن عمر صالح بن مخارق فشتر عينه وضرب قطريًا على جبينه ففلقه وانهزمت الخوارج وساروا إلى سابور فعاد عمر ولقيهم بها ومعه مجاعة بن سعر فقتل مجاعة بعمود كان معه أربعة عشر رجلًا من الخوارج وكاد عمر بهلك في هذه الوقعة فدافع عنه مجاعة فوهب له عمر تسعمائة ألف درهم فقيل في ذلك‏:‏ قد ذدت عادية الكتيبة عن فتىً قد كاد يترك لحمه أقطاعا وظهر عليهم فساروا وقطعوا قنطرةً بينهما ليمتنع من طلبهم وقصدوا نحو أصبهان فأقاموا عندها حتى قووا واستعدوا ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر فقطعوها في غير الموضع الذي هم به أخذوا على سابور ثم على أرجان حتى أتوا الأهواز‏.‏

فقال مصعب‏:‏ العجب لعمر‏!‏ قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم ولو قاتلهم وفر كان أعذر له‏.‏

وكتب إليه‏:‏ يا ابن معمر ما أنصفتني تجبي الفيء وتحيد عن العدو فاكفني أمرهم‏.‏

فسار عمر من فارس في أثرهم مجدًا يرجو أن يلحقهم قبل أن يدخلوا العراق وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر وعسكر الناس معه وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر إليهم وأن مصعبًا قد خرج من البصرة إليهم فقال لهم الزبير بن الماحوز‏:‏ من سوء الرأي وقوعكم بين هاتين الشوكتين انهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد‏.‏

فسار بهم فقطع بهم أرض جوخي والنهروانات فأتى المدائن وبها كردم بن مرشد القرادي فشنوا الغارة على أهل المدائن يقتلون الرجال والنساء والوالدان ويشقون أجواف الحبالى‏.‏

فهرب كردم وأقبلوا إلى ساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون وأرسلوا جماعة إلى الكرخ فلقوا أبا بكر بن مخنف فقاتلهم قتالًا شديدًا فقتل أبو بكر وانهزم أصحابه وأفسد الخوارج في الأرض‏.‏

فأتى أهل الكوفة أميرهم وهو الحارث بن أبي ربيعة ولقبه القباع فصاحوا به وقالوا‏:‏ اخرج فإن العدو قد أظل علينا ليست له بقية‏.‏

فخرج حتى نزل النخلية فأقام أيامًا فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر فحثه على المسير فسار حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به حتى دخل إليه شبث بن ربعي فأمره بالمسير فلما رأى الناس بطء مسيره رجزوا به فقالوا‏:‏ سار بنا القباع سيرًا نكرا يسير يومًا ويقيم شهرا فسار من ذلك المكان فكان كلما نزل منزلًا أقام به حتى يصيح به الناس فبلغ الفرات في بضعة عشر يومًا فأتاها وقد انتهى إليها الخوارج فقطعوا الجسر بينهم وبينه وأخذوا رجلًا اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له فأخذوها ليقتلوها فقالت لهم‏:‏ يا أهل الإسلام‏!‏ إن أبي مصاب فلا تقتلوه وأما أنا فجارية والله ما أتيت فاحشةً قط ولا آذيت جارةً لي ولا تطلعت ولا تشرفت قط‏.‏

فلما أرادوا قتلها سقطت ميتة فقطعوها بأسيافهم وبقي سماك معهم حتى أشرفوا على الصراة فاستقبل أهل الكوفة فناداهم‏:‏ اعبروا إليهم إليهم فإنهم قليل خبيث فضربوا عنقه وصلبوه‏.‏

فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث‏:‏ اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الكلاب فأجيئك برؤوسهم‏.‏

فقال شبث وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن عمير وغيرهم‏:‏ أصلح الله الأمير دعهم فليذهبوا وكأنهم حسدوا إبراهيم‏.‏

فلما رأى الخوارج كثرة الناس قطعو الجسر واغتنم ذلك الحارث فتحبس ثم جلس للناس فقال‏:‏ أما بعد فإن أول القتال الرمية بالنبل وإشراع الرماح والطعن ثم الطعن شزرًا ثم السلة آخر ذلك كله‏.‏

فقال له رجل‏:‏ قد أحسن الأمير الصفة ولكن متى نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبينهم فمر بهذا الجسر فليعقد ثم عبرنا إليهم فإن الله سيريك ما تحب‏.‏

فعقد الجسر وعبر الناس فطارد الخوارج حتى أتو المدائن وطاردت بعض خليهم عند الجسر طرادًا ضعيفًا فرجعوا فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة وقال له‏:‏ إذا وقعوا في أرض البصرة فاتركهم‏.‏

فسار عبد الرحمن يتبعهم حتى وقعوا في أرض أصبهان فرجع عنهم ولم يقاتلهم وقصدوا الري وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني فقاتلهم فأعان أهل الري الخوارج فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب ودعاه أوه ليدفع عنه فلم يرجع فقال بعضهم‏:‏ فلو كان حرًا حوشب ذا حفيظةٍ رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب يعني أن عيسى بن مصعب لم يفر عن أبيه بل قاتل عنه ومعه حتى قتل‏.‏

وقال بشر بن مروان يومًا وعنده حوشب هذا وعكرمة بن ربعي‏:‏ من يدلني على فرس جواد فقال عكرمة‏:‏ فرس حوشب فإنه نجا عليه يوم الري‏.‏

وقال بشر أيضًا يومًا‏:‏ من يدلني على بغلة قوية الظهر فقال حوشب‏:‏ بغلة واصل بن مسافر كان عكرمة يتهم بامرأة واصل فتبسم بشر وقال‏:‏ لقد انتصفت‏.‏

ولما فرغ الخوارج من الري انحطوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتاب بن ورقاء فصبر لهم وكان يقاتلهم على باب المدينة ويرمون من السور بالنبال والحجارة‏.‏

وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة شريح فكان يحمل عليهم ويقول‏:‏

يهركم بالليل والنهار يا ابن أبي الماحوز والأشرار كيف ترى حربي على المضمار فلما طال ذلك على الخوارج كمن له رجل منهم ذات يوم فضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه فاحتمله أصحابه وداووه حتى برأ وخرج إليهم على عادته‏.‏

ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرًا حتى نفدت أطعمتهم واشتد عليهم الحصار أصابهم الجهد الشديد فقال لهم عتاب‏:‏ أيها الناس قد نزل بكم من الجهد ما ترون وما بقي إلا أن يموت أحكم على فراشه فيدفنه أخوه إن استطاع ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه والله ما انتم بالقلي وإنكم الفرسان الصلحاء فاخرجوا بنا إلى هؤلاء وبكم قوة وحياة قبل أن تضعفوا على الحركة من الجهد فو الله إني لأرجو إن صدقتموهم أن تظفروا بهم‏.‏

فأجابوه إلى ذلك‏.‏

  ذكر قتل ابن الماحوز وإمارة قطري بن الفجاءة

لما أمر عتاب أصحابه بقتال الخوارج وأجابوه إلى ذلك جمع الناس وأمر لهم بطعام كثير ثم خرج حين أصبح فأتى الخوارج وهم آمنون فحملوا عليهم فقاتلوهم حتى أخرجوهم من عسكرهم وانتهوا إلى الزبير بن الماحوز فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل وانحازت الأزارقة إلى قطري بن الفجاءة المازني وكنيته أبو نعامة فبايعوه وأصحاب عتاب وأصحابه من عسكره ما شاؤوا وجاء قطري فنزل في عسكر الزبير ثم سار عن أصبهان وتركها وأتى ناحية كرمان وأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وجبى المال وقوي‏.‏

ثم أقبل إلى أصبهان ثم أتى إلى أرض الأهواز فأقام بها والحارث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة فكتب إلى مصعب يخبره بالخوارج وأنهم ليس لهم إلا المهلب‏.‏

فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة فأمره بقتال الخوارج وبعث إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر وجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس وسار بهم نحو الخوارج ثم أقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس‏.‏

  ذكر حصار الري

وفيها أمر مصعب عتاب بن زرقاء الرياحي عامله على أصبهان بالمسير إلى الري وقتال أهلها لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث بن رويم وامتناعهم من مدينتهم فسار إليهم عتاب فنازلهم وقاتلهم وعليهم الفرخان وألح عليهم عتاب بالقتال ففتحها عنوة وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاع نواحيها‏.‏

وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان وهو قريب قنسرين وشتى بها ثم رجع إلى دمشق‏.‏

  ذكر خبر عبيد الله بن الحر ومقتله

في هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر الجعفي وكان من خيار قومه صلاحًا وفضلًا واجتهادًا فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين علي ومعاوية قصد معاوية فكان معه لمحبته عثمان وشهد معه صفين هو ومالك بن مسمع وأقام عبيد الله عند معاوية‏.‏

وكان له زوجة بالكوفة فلما طالت غيبته زوجها أخوها رجلًا يقال له‏:‏ ظاهرت علينا عدونا فغلت‏.‏

فقال له‏:‏ أيمنعني ذلك من عدلك قال‏:‏ لا فقص عليه قصته فرد عليه امرأته وكانت حبلى فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة ودفع المرأة إلى عبيد الله وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل علي فلما قتل أقبل إلى الكوفة فأتى إخوانه فقال‏:‏ ما أرى أحدًا ينفعه اعتزاله كنا بالشام فكان من أمر معاوية كيت وكيت فقالوا‏:‏ وكان من أمر علي كيت وكيت وكانوا يلتقون بذلك ‏.‏

فلما مات معاوية وقتل الحسين بن علي لم يكن عبيد الله فيمن حضر قتله يغيب عن ذلك تعمدًا فلما قتل جعل ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه فقال له‏:‏ أين كنت يا ابن الحر قال‏:‏ كنت مريضًا‏.‏

قال‏:‏ مريض القلب أم مريض البدن فقال‏:‏ أما قلبي فلم يمرض وأما بدني فقد من الله علي بالعافية‏.‏

فقال ابن زياد‏:‏ كذبت ولكنك كنت مع عدونا‏.‏

فقال‏:‏ لو كنت معه لرأي مكاني‏.‏

وغفل عنه ابن زياد فخرج فركب فرسه ثم طلبه ابن زياد فقالوا‏:‏ ركب الساعة‏.‏

فقال‏:‏ علي به‏.‏

فأحضر الشرط خلفه فقالوا‏:‏ أجب الأمير‏.‏

فقال‏:‏ أبلغوه عني أني لا آيته طائعًا أبدًا‏.‏

ثم أجرى فرسه وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه ثم خرج حتى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع الحسين ومن قتل معه فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن وقال في ذلك‏:‏ يقول أمير غادر وابن غادر‏:‏ ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمة ونفسي على خذلانه واعتزاله وبيعة هذا الناكث العهد لائمه فيا ندمي أن لا أكون نصرته ألا كل نفسٍ لا تشدد نادمه وإني لأني لم أكن من حماته لذو حسرةٍ أن لا تفارق لازمه سقى الله أرواح الذين تبادروا إلى نصره سحًا من الغيث دائمة وقفت على أجداثهم ومحالهم فكاد الحشا ينقض والعين ساجمه تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم بأسيافهم آساد غيلٍ ضراغمه فإن يقتلوا في كل نفسٍ بقيةً على الأرض قد أضحت لذلك واجمه وما إن رأى الراؤون أفضل منهم لدى الموت سادات وزهر قما قمه يقتلهم ظلمًا ويرجو ودادنا فدع خطةً ليست لنا بملائمه لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم فكم ناقم منا عليكم وناقمه أهم مرارًا أن أسير بجحفلٍ إلى فئةٍ زاغت عن الحق ظالمه فكفوا وإلا زدتكم في كتائبٍ أشد عليكم من زحوف الديالمه وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد ووقعت الفتنة فقال‏:‏ ما أرى قريشًا تنصف أين أبناء الحرائر فأتاه كل خليع ثم خرج إلى لمدائن فلم يدع مالًا قدم به للسلطان إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويكتب لصاحب المال بذلك ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك إلا أنه لم يتعرض لمال أحد ولا ذمة‏.‏

فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمل في السواد فأخذ امرأته فحبسها فأقبل عبيد الله في أصحابه إلى الكوفة فكسر باب السجن وأخرجها وأخرج كل امرأة فيه وقال في ذلك‏:‏ ألم تعلمي يا أم توبة أنني أنا الفارس الحامي حقائق مذحج فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا جبين كقرن الشمس غير مشنج وخد أسيل عن فتاةٍ حبيبةٍ إلينا سقاها كل دانٍ مشنج فما العيش إلا أن أزورك آمنًا كعادتنا من قبل حربي ومخرجي وما زلت محبوسًا لحبسك واجمًا وإني بما تلقين من بعده شج وهي طويلة‏.‏

وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه فأحرقت بهمدان داره ونهبوا ضيعته فسار عبيد الله إلى ضياع همدان فنهبها جميعها وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من المال ثم يميل إلى الجبل فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار‏.‏

وقيل‏:‏ إنه بايع المختار بعد امتناع وأراد المختار أن يسطو به فامتنع لأجل إبراهيم بن الأشتر‏.‏

ثم سار مع ابن الأشتر إلى الموصل ولم يشهد معه قتال ابن زياد اظهر المرض‏.‏

ثم فارق ابن الأشتر وأقبل في ثلاثمائة إلى الأنبار فأغار عليها وأخذ ما في بيت مالها‏.‏

فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته ففعل ما تقدم ذكره‏.‏

وحضر مع مصعب قتال المختار وقتله فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية‏:‏ إنا لا نأمن أن يثب ابن الحر بالسواد كما كان يفعل بابن زياد والمختار فحبسه فقال‏:‏

بمنزلةٍ ما كان يرضى بمثلها إذا قام عنته كبول تجاذبه على الساق فوق الكعب أسود صامت شديد يداني خطوه ويقاربه وما كان ذا من عظم جرمٍ جرمته ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه وقد كان في الأرض العريضة مسلك وأي امرئٍ ضاقت عليه مذاهبه وقال‏:‏ بأي بلاء أم بأية نعمةٍ تقدم قبلي مسلم والمهلب يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة والمهلب بن أبي صفرة‏.‏

وكلم عبيد الله قومًا من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب وأرسل إلى فتيان مذحج وقال‏:‏ البسوا السلاح واستروه فإن شفعهم مصعب فلا تعترضوا لأحد وإن خرجوا ولم يشفعهم فاقصدوا السجن فإني سأعينكم من داخل‏.‏

فلما شفع أولئك النفر فيه شفعهم مصعب وأطلقه فأتى منزله وأتاه الناس يهنئونه فقال لهم‏:‏ إن هذا الأمر لا يصلح إلا بمثل الخلفاء الماضين الأربعة ولم نر لهم فينا شبيهًا فنلقي إليه أزمتنا فإن كان من عز بز فعلام نعقد في أعناقنا بيعةً وليسوا بأشجع منا لقاء ولا أعظم مناعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى وكلهم عاصٍ مخالف قوي الدنيا ضعيف الآخرة فعلام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب النخلية والقادسية وجلولاء ونهاوند نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا ثم لا يعرف حقنا وفضلنا فقاتلوا عن حريمكن فإني قد قلبت ظهر المجن وأظهرت لهم العداوة ولا قوة إلا بالله‏.‏

وخرج عن الكوفة وحاربهم وأغار‏.‏

فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي فعرض عليه بادوريا وغيرها ويدخل في الطاعة فلم يجب إلى ذلك فبعث إليه أيضًا حريث بن يزيد فقتله عبيد الله فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو فلقياه بنهر صرصر فقاتلهما فهزمهما فأرسل إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والصلة وأن يزليه أي بلد شاء فلم يقبل وأتى نرسى ففر دهقانها بمال الفلوجة فتبعه ابن الحر حتى مر بعين تمر وعليها بسطام بن مصقلة ابن هبيرة الشيباني فالتجأ إليهم الدهقان فخرجوا إلى عبيد الله وأسر أيضًا بسطام بن مصقلة وناسًا كثيرًا وبعث ناسًا من أصحابه فأخذوا المال الذي مع الدهقان وأطلق الأسرى‏.‏

ثم إن عبيد الله أتى تكريت فأقام يجبي الخراج فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف وأمدهم المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة فقال لعبيد الله رجل من أصحابه‏:‏ قد أتاك جمع كثير فلا تقاتلهم‏.‏

فقال‏:‏ لعل القنا تدلي بأطرافها الغنى فنجدي كرامًا تجتدي ونؤمل ألم تر أن الفقر يزري بأهله وأن الغنى فيه العلى والتجمل وأنك إلا تركب الهول لا تنل من المال ما يرضي الصديق ويفضل وقاتلهم عبيد الله يومين وهو في ثلاثمائة ولما كان عند المساء تحاجزوا وخرج عبيد الله من تكريت وقال لأصحابه‏:‏ غني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان فتجهزوا وقال‏:‏ إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعبًا وأصحابه‏.‏

وسار نحو الكوفة فبلغ كسكر فأخذ بيت مالها ثم أتى الكوفة فنزل بحمام جرير فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر فقاتله فخرج إلى دير الأعور فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر فانهزم حجار فشتمه مصعب وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر فقاتلوه بأجمعهم وكثرت الجراحات في عسكر عبيد الله بن الحر وعقرت خيولهم فانهزم حجار ثم رجع فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى أمسوا وخرج ابن الحر من الكوفة‏.‏

وكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني وهو بالمدائن يأمره بقتال ابن الحر فقدم ابنه حوشبًا فلقيه بباجسري فهزمه عبيد الله وقتل فيهم واقبل ابن الحر إلى المدائن فتحصنوا منه فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعي الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي فنزل الجون

بحولايا وقدم بشر إلى تامرًا فلقي ابن الحر فقتله ابن الحر وهزم أصحابه ثم لقي الجون بن كعب بحولايا فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحر وهزم أصحابه وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير الجلي فقتله بسوراء قتالًا شديدًا فرجع عنه بشير وأقام ابن الحر السواد يغير ويجبي الخراج‏.‏

ثم لحق بعبد الملك بن مروان فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير وأعطاه مائة ألف درهم وأعطى أصحابه مالًا فقال له ابن الحر ليوجه معه جندًا يقاتل بهم مصعبًا فقال له‏:‏ سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال‏.‏

فسار بأصحابه نحو الكوفة فنزل بقرية إلى جانب الأنبار فاستأذنه أصحابه في إتيان الكوفة فأذن لهم وأمرهم أن يخبروا أصحابه بقدومه ليخرجوا إليه‏.‏

فبلغ ذلك القيسية فأتوا الحارث بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير بالكوفة فسألوه أن يرسل معهم جيشًا يقاتلون عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفرق أصحابه فبعث معهم جيشًا كثيفًا فساروا فلقوا ابن الحر فقال لا بن الحر أصحابه‏:‏ نحن نفر يسير وهذا الجيش لا طاقة لنا فيه‏.‏

فقال‏:‏ ما كنت لأدعهم وحمل عليهم وهو يقول‏:‏ يالك يومًا فات فيه نهبي وغاب عني ثقتي وصحبي ثم عطفوا عليه فكشفوا أصحابه وحاولوا أن يأسروه فلم يقدروا على ذلك وأذن لأصحابه في الذهاب فذهبوا فلم يعرض لهم أحد وجعل بقاتل وحده فحمل عليه رجل من باهلة يكنى أبا كدية فطعنه وجعلوا يرمونه ويكتبون عليه ولا يدنون منه وهو يقول‏:‏ أهذه نبل أم مغازل فلما أثخنته الجراح خاض إلى معبر هناك فدخله ولم يدخل فرسه فركب السفينة ومضى به الملاح حتى توسط الفرات فأشرفت عليه الخيل وكان معه في السفينة نبط فقالوا لهم‏:‏ إن في السفينة طلبة أمير المؤمنين فإن فاتكم قتلناكم فوثب ابن الحر ليرمي نفسه في الماء فوثب إليه رجل عظيم الخلق فقبض على يديه وجراحاته تجري دمًا وضربه الباقون بالمجاذيف فلما رأى أنه يقصد به نحو القيسية قبض على الذي معه وألقى نفسه معه في الماء فغرقا‏.‏

وقيل في قتله‏:‏ إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدم عليه غيره فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدةً يعاتب فيها مصعبًا ويخوفه مسيره إلى ابن مروان يقول فيها‏:‏ أبلغ أمير المؤمنين رسالةً فلست على رأي قبيح أواربه أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب وزيرًا له من كنت فيه أحاربه فكيف وقد آتيتكم حق بيعتي وحقي يلوى عندكم وأطالبه وأبليتكم ما لا يضيع مثله وآسيتكم والأمر صعب مراتبه جفا مصعب عني ولو كان غيره لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابني من مصعب أن مصعبًا أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه وما أنا إن حلأتموني بواردٍ على كدرٍ قد غص بالماء شاربه وما لامرئٍ إلا الذي الله سائق إليه وما قد خط في الزبر كاتبه إذا قمت عند الباب أدخل مسلمًا ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه فحبسه مصعب وله معه معاقبات من الحبس ثم إنه قال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان منها‏:‏ ألم تر قيسًا قيس عيلان برقعت لحاها وباعت نبلها بالمغازل فأرسل زفر بن الحارث الكلائي إلى مصعب‏:‏ إني قد كفيتك قتال ابن الزرقاء يعني عبد الملك بن مروان وابن الحر يهجو قيسًا ثم إن نفرًا من بني ليم أسروا ابن الحر فقال‏:‏ إنما قلت‏:‏ ألم تر قيسًا قيس عيلان أقبلت وسارت إلينا في القنا والقبائل فقتله رجل منهم يقال له عياش‏.‏

قيل‏:‏ في هذه السنة وافى عرفات أربعة ألوية‏:‏ لواء لابن الحنفية و أصحابه ولواء لابن الزبير وأصحابه ولواء لبني أمية ولواء لنجدة الحروري ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة وكان أصحاب ابن الحنفية أسلم الجماعة‏.‏

وكان العامل لابن الزبير على المدينة هذه السنة جابر بن الأسود بن عوف الزهري وعلى البصرة والكوفة مصعب أخوه وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن خازم وكان عبد الملك بن مروان بالشام مشاققًا لابن الزبير‏.‏

ومات عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين وعمره أربع وسبعون سنة وقيل غير ذلك‏.‏

وفيها مات عدي بن حاتم الطائي وقيل‏:‏ سنة ست وستين وعمره مائة وعشرون سنة‏.‏

ومات أبو واقد الليثي واسمه الحارث بن مالك‏.‏

وفيها توفي أبو سريح الخزاعي واسمه خويلد بن عمرو وهو الكعبي‏.‏

شريح بالشين المعجمة‏.‏

وعبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وقيل‏:‏ إنه ولد زمن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

حاطب بالحاء المهملة وبلتعة بالباء الموحدة والتاء المثناة من فوق والعين المهملة المفتوحات‏.‏

  ذكر قتل عمرو بن سعيد الأشدق

في هذه السنة خالف عمرو بن سعيد عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق فقتله وقيل‏:‏ كانت هذه الحادثة سنة سبعين‏.‏

وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحارث الكلائي وكان عمرو بن سعيد مع عبد الملك فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلًا ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنه وهدم دار ابن أم الحكم واجتمع الناس إليه فخطبهم ومناهم ووعدهم‏.‏

وأصبح عبد الملك وفقد عمرًا فسأل عنه فأخبر خبره فرجع إلى دمشق فقاتله أيامًا وكان عمرو إذا أخرج حميد بن حريث على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي وإذا أخرج عمرو زهير بن الأبرد أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل‏.‏

ثم أن عبد الملك وعمرًا اصلحا وكتبا بينهما كتابًا وآمنه عبد الملك فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك فانقطعت وسقط السرادق ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا‏.‏

ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس فلما كان بعد دخول عبد الملك بأربعة أيام أرسل إلى عمرو أن ائتني وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو فقال‏:‏ لا ناقة لي في هذا ولا جمل في مثل هذا هلكت حمير‏.‏

فلما أتى الرسول عمرًا يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية فقال لعمرو‏:‏ يا أبا أمية أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري وأرى لك أن لا تأتيه‏.‏

فقال عمرو‏:‏ لم قال‏:‏ لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال‏:‏ إن عظيمًا من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل‏.‏

فقال عمرو‏:‏ والله لو كنت نائمًا ما انتهبني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه‏.‏

وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو‏.‏

ثم قال عمرو للرسول‏:‏ أنا رائح العشية‏.‏

فلما كان العشاء لبس عمرو درعًا ولبس عليها القباء وتقلد سيفه وعنده حميد بن حريث الكلبي فلما نهض متوجهًا عثر بالبساط فقال له حميد‏:‏ والله لو أطعتني لم تأته‏.‏

وقالت له امرأته الكلبية كذلك فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه‏.‏

وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان فلما بلغ الباب أذن له فدخل فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قارعة الدار وما معه إلا وصيف له فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان وحسان بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي فلما رأى جماعتهم أحس بالشر فالتفت إلى وصيفه وقال‏:‏ انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتيني فلم يفهم الوصيف فقال له‏:‏ لبيك‏!‏ فقال عمرو‏:‏ اغرب عني في حرق الله وناره‏!‏ وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة فقاما فلقيا عمرًا في الدار فقال عمرو لوصيفه‏:‏ انطلق إلى يحيى فمره أن يأتني‏.‏

فقال‏:‏ لبيك‏!‏ فقال عمرو‏:‏ اغرب عني‏.‏

فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو فرحب به عبد الملك وقال‏:‏ هاهنا هاهنا يا أبا أمية‏!‏ فأجلسه معه على السرير وجعل يحادثه طويلًا ثم قال‏:‏ يا غلام خذ السيف عنه‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إنا لله يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ أتطمع أن تجلس معي متقلدًا سيفك فأخذ السيف عنه ثم تحدثا ثم قال له عبد الملك‏:‏ يا أبا أمية إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة‏.‏

فقال له بنو مروان‏:‏ ثم تطلقه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أمية فقال بنوا مروان‏:‏ أبر قسم أمير المؤمنين‏.‏

فقال عمرو‏:‏ قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين‏.‏

فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال‏:‏ يا غلام قم فاجمعه فيها‏.‏

فقام الغلام فجمعه فيها‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ أمكرًا يا أبا أمية عند الموت لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس‏.‏

ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ أمكرًا يا أبا أمية عند الموت لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس‏.‏

ثم جذبه جذبه أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك‏.‏

فقال له عبد الملك‏:‏ والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه‏.‏

فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال‏:‏ أعذرًا يا ابن الزرقاء‏!‏ وقيل‏:‏ إن عمرًا لما سقطت ثبتاه جعل يمسهنا فقال عبد الملك‏:‏ يا عمرو أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعًا لا تطيب نفسك بعدها‏.‏

وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله فقام إليه عبد العزيز بالسيف فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي ليقتلني من هو أبعد رحمًا منك‏.‏

فألقى السيف وجلس وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب‏.‏

ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو وناس من أصحابه كثير فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك‏:‏ أسمعنا صوتك يا أبا أمية‏!‏ فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس‏.‏

ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمرًا بالحياة فقال لعبد العزيز‏:‏ ما منعك أن تقتله فقال‏:‏ إنه ناشدني الله والرحم فرققت له‏.‏

فقال له‏:‏ اخزى الله أمك البوالة على عقبيها فإنك لم تشبه غيرها‏!‏ ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرًا فلم تجز ثم ثنى فلم تجز فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال‏:‏ ودرع أيضًا إن كنت لمعدًا‏!‏ فأخذ الصمصامة وأمر بعمرو فصرع وجلس على صدره فذبحه وهو يقول‏:‏ يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة فحمل عن صدره فوضع على سريره وقال‏:‏ ما رأيت مثل هذا قط قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة‏.‏

ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم فقاتلوا يحيى وأصحابه وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس فألقاه إلى الناس وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر فجعل يلقيها إلى الناس فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا الأموال وفرقوا ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال‏.‏

وقيل‏:‏ إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه ابن الزعيرية فقتله وألقى رأسه إلى الناس ورمى بصخرة في رأسه وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد وخرج وجلس عليه وفقد الوليد ابنه فقال‏:‏ والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم‏.‏

فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال‏:‏ الوليد عندي وقد جرح وليس عليه بأس‏.‏

وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد وأمر به أن يقتل فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال‏:‏ جعلت فداك يا أمير المؤمنين‏!‏ أتراك قاتلًا بني أمية في يوم واحد‏!‏ فأمر بيحيى فحبس‏.‏

وأراد قتل عنبسة بن سعيد فشفع فيه عبد العزيز أيضًا وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي فشفع فيه عبد العزيز وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا ثم أخرجهم مع عمهم يحيى فألحقهم بمصعب بن الزبير‏.‏

ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية‏:‏ ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو فقالت

لرسوله‏:‏ ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه‏.‏

وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك‏.‏

فلما قتل عبد الملك مصعبًا واجتمع الناس عليه دخل أولاد عمرو على عبد الملك وهم أربعة‏:‏ أمية وسعيد وإسماعيل ومحمد فلما نظر إليهم قال لهم‏:‏ إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلًا لم يجعله الله لكم وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثًا ولكن كان قديمًا في أنفس أوليائكم على أوليائنا في الجاهلية‏.‏

فأقطع بأمية وكان أكبرهم فلم يقدر أن يتكلم فقام سعيد بن عمرو وكان الوسط فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ماتنعى علينا أمرًا كان في الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنةً وحذر نارًا وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم بما صنعت وقد وصل عمرو إلى الله وكفى بالله حسبًا ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لطن الأرض خير لنا من ظهرها‏.‏

فرق لهم عبد الملك وقال‏:‏ إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله فاخترت قتله على قتلي وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم‏!‏ وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم‏:‏ عجبت كيف أصبت غرة عمرو‏.‏

فقال عبد أدنيته مني ليسكن روعه وأصول صولة حازمٍ متمكن غضبًا ومحميةً لديني إنه ليس المسيء سبيله كالمحسن وقيل‏:‏ إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب فقال له عمرو‏:‏ إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده وعلى ذلك قاتلت معه فاجعل هذا الأمر لي بعدك فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك فرجع إلى دمشق وكان من قتله ما تقدم‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان عبد الملك قد استخلف عمرًا على دمشق فخالفه وتحصن بها والله أعلم‏.‏

ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال‏:‏ إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان‏:‏ ‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏ وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال‏:‏ ‏{‏فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته‏.‏